السفارة في العفانة
ياسر عثمان
لا بد أن يسوقك قدرك شئت أم أبيت الى بيت السودان طالما أنت ترزح في حياة المنافي!
قبل أكثر من شهر ذهبت الى قنصليتنا المجيدة في حي الهنداوية بجدة لإستخراج جواز جديد وكالعادة كلما أدخل هذا المقام أتذكر جنينة الحيوانات (جنينة النِزْهه كما يسميها الخرطوميون) في موقعها الفاخر في شارع النيل بالخرطوم والمعاملة الراقية التي يجدها سكان هذه الجنينة من كل النواحي وإحترام كل البشر لهؤلاء السكان, واقوم في سري بالمقارنة بيننا نحن زوار هذا المقام وسكان تلك الجنينة فأجدهم أرقى حالاً منَّا, ثم أعود في رحلة
الإياب من خيالي مروراً بسكان أوروبا التي عشت فيها زهوة شبابي وغشوة
صغيرة على كل البلاد التي زرتها من أقاصي شرق الكرة الأرضية الى جزيرة
برمودا غرباً في مسح ضوئي سريع على كافة المعاملات التي تتم في المطارات
والسفارات والفنادق وغيرها فافيق والدمع مسفوحاً على نَغَمَةْ الآه
الطويلة في سلم العذابات, وأستغفر ربي واتوب اليه وأحمده أني سوداني
وزيادة وكيفن يكون حالي إن ما كتَّ سوداني!!
فعندما وصلت الى الإستقبال لتعبئة الإستمارات والخ.. قال لي موظف
الإستقبال إذا قدمت الآن لجواز جديد سيتم إستخراج الجواز من الطراز
القديم, ولكن إذا إنتظرت لغاية شهر سبعة سيتم إستخراج الجواز الإلكتروني
وأن القنصلية سيتم نقلها الى المقر الجديد, فقلت له شكراً على هذه
المعلومة القيِّمة وخرجت من القنصلية ممنياً النفس بأملين, الأمل الأول
حصولي على الجواز الإلكتروني الجديد, والثاني أنني سأنعم بتعامل ربما
يكون أرقى ومكان جديد قطعاً سيكون أفضل من هذا المقر البائس.
اليوم 31/7/2010 قررت الذهاب الى المقر الجديد بعد أن تحصَّنت بالوصف
بدقة من بعد أن تحصَّنت بالله وانطلقت, ثم وصلت بعد خمسة وثلاثون دقيقة من وسط
جدة بشق الأنفس وانقلب الأمل الأول الى الإحباط الأول في المكان حيث تم
نقل المقر الى حي النزهة في أقصى شمال جدة وهو حي شعبي بإمتياز مثله مثل
الهنداوية يعني "كأنك يا أبزيد ما غزيت" ومن "حفرة الى درديقة", المهم عندما وصلت حسب خارطة الطريق دخلت في زقاق في حارة في شارع متهالك لم يعرف الصيانة منذ عشر سنوات على الأقل, في مبنىً كالذي يسكن فيه أي واحد منا إن لم يكن أسوأ منه! ومن بداية الزقاق رأيت باعة الجلاليب والعراريق والطواقي وأشرطة الأغاني السودانية والمدائح والتمباك
يفترشون الأرض, فعلمت أنني وصلت, فهؤلاء هم عَلَم السودان الذي يرفرف
أمام السفارة!! إنهم يوفِّرون على القنصلية مجهود وضع العَلَم في أعلى
المبنى, فهؤلاء هم السيادة ورمز السيادة, فلا عجب أن يكون علمنا هو
العراريق المنصوبة أمام القنصلية والعماري الجيد وارد الفاشر!!
أوقفت سيارتي بعد عناء في هذا الزقاق الملئ بالحفر المترعه بمياه المجاري
بعد أن كادت تنشب معركة بيني وبين أحد أصحاب السيارات الخاصة من
الكريسيدات موديل 80 الذين يستغلون الناس في مشاويرهم بدل سيارات الأجرة,
وحمدت الله أن المشكلة إنتهت دون إستخدام الأيادي حيث أن ظروفي الصحية لا
تسمح لي بمصارعة التيران فانني أعاني من الإنزلاق الغضروفي وبلاوي أخرى
كثيرة أخفها القولون العصبي.
وقفت أمام السفارة اللي في العمارة و"نَفَسِي قايم" من زيادة ضربات القلب
بسبب "النرفزة" التي حدثت مع هذا التكَّاسي متسخ الملابس! وقلت أدخل
أنْجَمَّ شوية في المكيف بعدين نشوف الحاصل شنو .. فدخلت من باب مثل باب
تابوت النصارى يسع نصف شخص فقط (البدناء يمتنعون) فالدخول لازم يكون
"جنباوي" ولا أدري ما الفكرة في ذلك هل هي من دواعي أمنية أم بَلَادَة!!
المهم إنزرقت جوا, وفي الوِش على طول وجدت معركة حامية ا########س بين
مواطن سوداني "قلبه حار" وموظف الإستقبال في حضور القنصل أو مساعد القنصل
الله أعلم والعرق يخب من الكل واناس يغلون غلى المرجل, ثم إستدعاء للشرطة
وتدخلات الأجاويد والشتائم والسباب, والقلوب في الحناجر .. يا نهار مش
فايت .. وتعوذت من الشيطان الرجيم ولزمت الصمت المريب حيث أن منظر الصالة
يوحي بأنك في سوق "أم دفسو", كمية البشر أكبر من حيز المكان, المقاعد
ممتلئة على الآخر وبقية الخلق واقفين شماعة, ودرجة الحرارة الخارجية 42
درجة مئوية والرطوبة 95% والحرارة الداخلية أعتقد 43 درجة والمكيفات تلهث
فلك أن تتخيل أكثر من 1000 شخص في هذا المربع الضيق يتنفسون ويلهثون
ويعرقون و تنبعث من أجسامهم سعرات حرارية تكفي لتدوير محطة كهرباء الأبيض
بالإضافة الى الغازات التي تخرج من المؤخرات دون تحفظ في وسط هذه
الجبَّانة الهايصة, مما يضفي على المكان رائحة أقرب إلى رائحة بيت الأدب,
فضلاً عن رذاذ العطس والكحة المتتطاير في وجهك و "عنقرتك" شئت أم أبيت,
والعجب إذا كان "القدوم معمَّر بسفَّة", ثم دهس الأقدام ولا إعتذار
ولا يحزنون, ومَدْ الأيادي من فوقك في زي كبري توتي لتناول المعاملات
وتعطيرك بروائح الإبط حتى يغمى عليك إن كنت حساساً, وإن لم تكن كذلك فلا
ضرر ولا ضرار!!
لم أجد مكاناً أجلس فيه فظللت واقفاً على غضروفي المنزلق متحملاً ألماً
تخر منه الجبال, ولم أجرؤ أن أستأذن أحداً بالجلوس لئلا أسمع ما لا
يرضيني فاليوم يوم المشاكل والتحرش .. وبعد نصف ساعة تقريباً من الوقوف
المتصل في هذا السوق أكرمني الله بكرسي إقتنصته مثلما يُفعل في لعبة
الكراسي .. وشفطت نفس طويل من الهواء الثقيل الموجود حول أنفي, ولو كنت
من ذوي الرئة الضعيفة أو ممن يعانون من مشاكل في عضلة القلب فحتماً ستجد
نفسك في سيارة الإسعاف خلال دقائق! المهم بعد أن جلست في إنتظار الدور
حيث كان أمامي واحد وثلاثون رقماً, في هذه اللحظات بدأت أتأمل في كل ما
يدور حولي, فبكيت بلا دموع فكل شئ بالي وعتيق يبعث في النفس الإكتئاب حتى
البشر, وكعادتي دائماً أجتر أجندتي الخفية وهي أدب المقارنة بيننا وبين
بقية شعوب الأرض, فكل مناحي حياتنا موغلة في المحلية والسلوك الأخرق و لا
شي يرقى حتى للحد الأدنى من المدنية والتحضر, فكل منَّا يتعامل وكأنه في
"الحلة" هذا ببساطة, أما الجهة الرسمية المتمثلة في القنصلية المجيدة فلا
يعبهون! وكأنهم لم يشاهدوا سفارات أخرى, ولم يسافروا الى بلدان أخرى
ولايدرون ما حدث في العالم من تطور ولا أدري ماهو فهم السادة
الدبلوماسيون والإداريون في هذا الإنحطاط, هل يعجبكم هذا الحال والمآل أم
نحن لا نستاهل أن نُعامل مثل سكان جنينة النزهة, وهل السودان دولة فقيرة
الى الحد الذي يكون فيه بيت السودان بهذه الوضاعة والإمتهان, أم العيب
فينا كلنا ولا ندري ما عيبنا!!, وشد ما عجبت له أن كل منَّا يتذمر من
سلوك الآخر, والموظفون يتذمرون منَّا ونحن نـتذمَّر منهم ونستهجن
تعاملهم, سلوك أعتبره مادة دسمة لإختصاصيي علم النفس لدراسته وتحليله.
جاء دوري بعد ساعة تقريباً, ولم أصدق وفرحت كأنني نجحت في إمتحان
الشهادة! ثم هرولت لسعادة ضابط الجوازات الذي يمتطي سفته بدون أدب, و
قلتُ له السلام عليكم ولم يرد عليَّ السلام, (شتمته في سري), ثم سلمته
المعاملة, ثم قام بالشخبطة عليها وردها اليَّ رداً قبيحاً لكي أنتقل الى
المرحلة التالية, وفي هذه الأثناء جاء أحد البسطاء متجاوزاً لأحقيتي في
الدور, وقدم معاملته للضابط العظيم, فرفع سعادته عينيه بغضب على هذا
الرجل البسيط وقال له "رقمك كم", فرد عليه "العوض" قائلاً : " واللهِ
شريحتي دي جديدة عِلَّي ماني حافض الرقم"!! فضحكت وبكيت في سري .. ثم
تلقى الرجل زجرة من الضابط العظيم جعلته يختفي عن
الأنظار مكسورٍ الخاطر .. وبعد أن أتم سعادته الشخبطة على معاملتي وأشَّر
لي بأن اذهب الى شباك الخدمة والزكاة ثم الحسابات, تقهقرت مكسور الخاطر
أيضاً لما جرى "للعوض", وبحثت عنه الى أن وجدته حائراً به الدليل, وطيبت
له خاطره وأعنته بما يجب أن يفعله! هنا أيضاً تذكرت جنينة النزهه في
عصرها الذهبي وكيف كانت الأفيال تُحترم وكيف كانت الأسود تُطعم في
مواعيدها وكيف كانت القرود تُداعب من قِبَل الكل, وكيف كان الناس يتحلقون
حول فرس النهر ( القرنتية) وينتظرونها تفتح فمها في زاوية مستقيمة وكيف
.. وكيف .. وكيف, الكل مُحترم ضيوفاً وسكاناً في هذه الجنينة. أما نحن
اليوم في جنينة بيت السودان الكل مهان, ولا إحترام للضيوف ولا لأصحاب
المقر
ذهبت الى شباك الزكاة وطلب مني أن أحضر له "برينت Print" من الشباك
المجاور وذهبت الى الشباك المجاور فوجدت رجلااً بديناً يقضم "ساندويتش"
وشدقيه منتفخان زي قِرَبْ المزيكا الأسكتلندية فهو لا يستطيع الكلام في
هذه اللحظة, وإنتظرت حتى أفرغ "جضومه" من محتواها على أمل الرد عليَّ
إلَّا أنه لم يترك لي فرصة وقام بقضم ما تبقى من "الساندويتش" دفعة واحدة
"لمَّن عويناتو نططن زي القعونجة", وأنا ما زلت أنتظره, وسالت الله أن لا
يتناول "الساندويتش" التاني الموجود بجانبه, وعندما رجعن العوينات للوضع
الطبيعي إكتفى بعلبة البيبسي فقط - الحمد لله - قلتها أنا ولم يقلها هو,
ثم قام بطبع "البرينت" الذي يمثل الكثير لهم ولا يمثل لي سوى وثيقة تثبت
كم من الأموال سُرقت مني وكم من السنين تم إبتزازي!! وأخيراً تدخرجت الى
المحاسب ووجدته متكئاً على جواله في حديث "دُقَاقَة" لكنه أنهى معاملتي
وهو ما يزال في حديث يبدو ذو شجون!! فقام برمي الملف في الكرسي المجاور
له وخرج نصف الجواز من الملف في طريقه الى الأرض, فخفت إذا رمى معاملة
أخرى فوقه فسيكمل جوازي رحلته الى الأرض ثم الضياع, فقلت له الجواز مع
إشارة للوضع, فقام بحسمي بإشارة بيده مفادها "دا شغلنا وإتفضل إنت غور من
هنا" .. وبالفعل غُرت من وجهه الجميل ثم رجعت الى قسم تسليم الجوازات
وسألته عن موعد التسليم فافادوني بأن أعود الساعة الثالثة عصراً وكانت
الساعة وقتها العاشرة وخمسة وأربعون دقيقة صباحاً, وكنت قد وصلت السفارة
باكراً في تمام الساعة التاسعة والربع, يعني تسعون دقيقة وأنا الهث مع
اللاهثين, وموظفي السفارة يلهثون وإن تحمل عليهم يلهثون أيضاً.
من الأشياء المحزنة التي شاهدتها أمام شباك الجوازات, هنالك إجراءات
تحتاج الى أخذ البصمة من المتقدم, فبعد أن تضع البصمة على الحبر ثم على
المستند يظل الأصبع معطوناً بالحبر, فما عليك إلا أن "تجلطه" في الحيطة
بجوار الضابط العظيم!! فإذا تأملت مجموع "الجلطات" من بعيد فكأنك تطالع
لوحة تشكيلية للفنان "شبرين"!!
السؤال الكبير هو: من الذي قام بإختار الموقع ولماذا؟ وهل لا يوجد في
مدينة جدة مكان يليق بنا أم هذا المكان في نظرهم قمة!! فاذا كان الأمر
مادياً, فأنا اعلم أن دخل قنصلية جدة لوحدها تكفي لرفاهية الشعب السوداني
بأسره.
والسؤال الصغير هو: هل سيكون سعادة القنصل والذين معه في هذه الدار سعداء
إذا قدم لزيارتهم مسئول كبير سوداني أو غير سوداني وهم يخوضون به في مياه
البالوعات الى أن يصل الى مكتب سعادة القنصل؟
والسؤال الأصغر هو: هل هؤلاء الدبلوماسيون القابعون في هذه القنصلية هم
من السلك الدبلوماسي Diplomatic career أم هم تعيين المؤتمر الوطني
لدواعي أمنية, ولا علم لهم بالأعراف الدبلوماسية وفن التعامل Etiquette!!
أسئلة اخرى:
هل نحن من شعوب العالم الرابع ولا نشبه حتى شعوب العالم التالت, ناهيك عن
العالم الأول والتاني؟
هل التخلف صفة وراثية؟ أم صفة مرتبطة بالفقر والجهل؟
في علم الوراثة, هناك ظاهرة تسمى "الإرتباط" Linkage معناها أن هنالك
صفتان وراثيتان أو اكثر متلازمة ولابد إذا ظهرت إحداهما من ظهور الصفة أو
الصفات الأخرى فلا تظهر هذه الصفة منفصلة, فعلى سبيل المثال مرض الألبينو
Albino وهو مرض شحوب البشرة وفقدان الصبغات الملونة للبشرة فهذا المرض
مرتبط بضعف البصر وقلة الشعر بمعنى أن أي مصاب بهذا المرض الوراثي لابد
أن يكون نظره ضعيفاً لفقدان لون العين وشعره يكون خفيفاً (في الإنسان
والحيوان), هذا يقودني الى التساؤل التالي: هل هناك صفة وراثية في
الجينات السودانية مرتبطة بهذا التخلف والسبهللية؟ بمعنى آخر هل مثلاً
صفة اللون الأسمر وهي
الصفة المشتركة لغالبية أهل السودان مرتبطة بذلك, فإذا كانت الإجابة بنعم
فهل بقية الشعوب الأفريقية ذات العرق الأسمر تتمتع بهذه الصفات السيئة
المرتبطة باللون فرضاً؟ أم أن هذا السلوك مكتسباً وليس وراثياً؟
كسرة: تم إعدام جنينة النزهه في بداية عهد حكومتنا الرشيدة وسكانها منهم
من نفق ومنهم ما تم التبرع به كهدايا لشيوخ الخليج وغيرهم, وأذكر أن
الرينو الأبيض (وحيد القرن) الموجود بالجنينة كان آخر حبة من هذه السلالة
النادرة, وإختطفه الأمريكان بحجة العلاج والفحص, وضحكوا على دقون مشايخنا
وسرقوه, كذلك كانت هنالك قرنتية واحدة من سلالة معينة كانت تعيش عندنا
فهربت من "المغسة" الى القى عليها القبض أهالي توتي الذين ترسوا البحر
وقاموا بشنقها أمام مدير قوات حرس الصيد السيد هجو بالرغم من توسل
بروفيسور محمد عبدالله الريح لإنقاذ هذا الحيوان .. وذهبت توسلاته أدراج
الرياح .. وأعلنت الأفراح في توتي بالنصر الكبير على إعدام القرنتية!!
وكتب هاشم صديق معلقةً فاخرة في المرحومة القرنتية.
أسأل الله ان قنصليتنا بجدة تلحق القرنتية في ستين داهية, وخلونا نتعامل
مع أي سفارة أخرى كرعايا لها حتى نحس بطعم النضافة